يتَّسم عصرنا بالتركيز على الإنجازات أكثر من الصفات، والناس يهمها الكم أكثر من الكيف.
وعند الكثيرين من المسيحيين المُهم هو ما تفعله أكثر مما أنت عليه. بمعنى أن خدمتك أهم من شخصيتك، وشهرتك أهم من صفاتك! وفي خضم هذا غابت القيم المسيحية.
ما أقل مَنْ يُفكِّر في الدوافع وراء تصرُّف مُعيَّن في الكنيسة أو الوسائل المُتَّبعة لتحقيق خدمة ما. تُرَى هل يؤثر هذا التيار على شعب الله؟! بلا شك. وهل مَنْ يخدمون الرب في أي مجال معرَّضون للتأثر بهذا التوجه؟! بالطبع نعم.
لذا ربما يكون من النافع أن نرجع إلى كلمة الله وبكل خشوع وخضوع نتعلَّم من جديد القيم الثمينة التي يُنبِّر عليها الكتاب، ونُصلِّي بكل اتضاع أن الروح القدس يحفرها فينا، ولنعرف يقينًا أن الرب ينظر إلى القلب، ويهمه الخادم نفسه قبل الخدمة، والدوافع قبل الإنجازات، ويرى الخفيات قبل المُعلنات.
وعندما نقف أمام كرسي المسيح سيكون الحُكم الصحيح والتقييم الصحيح للرب وحده، الذي سيُنير خفايا الظلام ويُظهر آراء القلوب (1كو5:4).
الإخلاصالإخلاص كلمة جميلة تكررَّت مرارًا في العهد الجديد وارتبطت بمعظم جوانب الحياة المسيحية، ومن الصعب أن تأتي عليها في أي مقطع كتابي دون أن تستوقفك وتفحصك، وربما تُوخز ضميرك. لقد صَلَّى الرسول بولس لأجل الإخوة في فيلبي قائلاً: «وهذا أصليه: أن تزداد محبتكم أيضًا أكثر فأكثر في المعرفة وفي كل فهمٍ، حتى تُميِّزوا الأمور المُتخالفة، لكي تكونوا مُخْلِصِيَن وبلا عثرةٍ إلى يوم المسيح...» (في 9:1، 10).
وفي ذات الرسالة ذكر عن تيموثاوس: «لأنْ ليس لي أحدٌ آخرُ نظير نفسي يهتم بأحوالكم بإخلاصٍ» (في 20:2).
ما هو الإخلاص؟ وما هو معناه ؟
الكلمة اليونانية المترجمة: «إخلاص» لها عدة معانٍ. البعض يترجمها: ’’فُحِصَتْ في ضوء الشمس لتظهر نقاوتها‘‘، وهذا يعني أن المؤمن المُخْلِص لا يخشى أن يقف في النور. كما أنها تعني ’’التذرية للحنطة‘‘ أو ’’هز الحنطة بسرعة وبقوة بالمنخل لإزالة التبن بعيدًا‘‘. والكلمة الإنجليزية Sincere تأتي من أصل لاتيني هو sinecera ومن الكلمة الفرنسية Senseire والتي تعني حرفيًا ’’بدون شمع‘‘؛ إذ كان النحَّاتون قديمًا يضعون شمعًا لتغطية أي عيوب في التماثيل. إذًا كلمة «إخلاص» تعني: ما ثبت أنه أصيلٌ، نقيٌ، غيرُ مغشوشٍ بعد فحصه جيدًا.
وقد وردت الإشارة إلى الإخلاص مرات عديدة في العهد الجديد، وإليك بعضها:
• «إذًا لنُعيِّدْ، ليس بخميرة ٍعتيقةٍ، ولا بخميرة الشَّر والخُبْثُ، بل بفطير الإخلاص والحق» (1كو 8:5). فالحياة المسيحية تتَّسم بالإخلاص والنقاء دائمًا.
• «لأن فخرنا هو هذا : شهادةُ ضميرنا أننا في بساطةٍ وإخلاصٍ الله، لا في حكمةٍ جسديةٍ بل في نعمة الله، تَصرَّفنا في العالم، ولا سيما من نحوكم» (2كو 12:1). فأسلوب التصرُّف مع المؤمنين ينبغي أن يكون بإخلاص وصدق، خاليًا من أي ادعاء أو رياء.
•«لأننا لسنا كالكثيرين غاشِّين كلمة الله، لكن كما من إخلاصٍ، بل كما من الله نتكلَّم أمام الله في المسيح» (2كو 17:2). فإن خادم الكلمة دافعه الوحيد وهو يقدِّم كلمة الله هو مجد الله وخير النفوس، لا شيء آخر. (راجع أيضًا تيطس 17:2). والإخلاص في الخدمة يتطلَّب أن يُقدِّم الكلمة كما هي للنفوس دون تزييف أو تخفيف، ولا يخدعهم بكلام ناعم لكي يرضيهم.
• «لستُ أقولُ على سبيل الأمر، بل باجتهاد آخرين، مُختبرًا إخلاص محبتكم أيضًا» (2كو 8:8). فمحبتنا للرب ولخدامه ولإخوتنا المؤمنين ينبغي أن يُميِّزها الإخلاص. «المحبة فلتكن بلا رياء» ( رو9:12 ).
بولس والإخلاصكان بولس حريصًا في خدمته أن يكون واضحًا وصادقًا، نقي الدوافع، بلا غموض أو مواربة، وهذا ما أوضحه لإخوة كورنثوس في رسالته الثانية: «لأن فخرنا هو هذا: شهادة ضميرنا أننا في بساطة وإخلاص الله ،لا في حكمة جسدية بل في نعمة الله، تصرَّفنا في العالم، ولا سيما من نحوكم» (2كو 12:1).
كان بولس قد وعد بزيارتهم (1كو 19:4؛ 34:11؛ 5:16)، ثم تغيَّرت خطته فلم يذهب، واستغل المُعلِّمون الكذبة هذا الأمر وصوَّرُوا بولس كإنسان مُتردِّد، مُتغيِّر ولا يُعْتَمَد عليه، ووصفوه بأنه ماكر وغير مُخْلِص.
لذا في بداية رسالته الثانية يتصدَّى للدفاع عن هذه التهمة مُوضحًا:
أولاً: إنه يجتهد أن يحتفظ دائمًا بضمير صالح وطاهر.
(الضمير يُشبه زجاج الغرفة الذي يدخل منه ضوء الشمس ليُنير المكان، ويجب أن يكون شفَّافًا ونقيًّا. فإن كان الزجاج مُتسخًا فكيف تدخل الأشعة منه؟ وكيف تُفْحَص الغرفة؟ وكيف تُوصف تفاصيلها في الداخل بكل وضوح؟).
ثانيًا: يُبيِّن أنه اجتهد دائمًا أن يكون الشخص الذي يُعْتَمَد عليه في أقواله وأفعاله.
«فإننا لا نكتب إليكم بشيءٍ آخر سوى ما تقرأون أو تعرفون» (ع 13)؛ أي لم أتكلَّم كلمة أو أكتب حرفًا لم أكن أعنيه، لم أُخفِ شيئًا، ولم يكن لكلامي معنى ظاهري وآخر خفي، ثم يستشهد الله على نفسه، «لكني أستشهد الله على نفسي ...»(ع 23).
إذًا لماذا غيَّر خطته؟ الإجابة: بدافع المحبة الشديدة لهم. «أني إشفاقًا عليكم لم آتِ إلى كورنثوس» (ع 23)، لكي لا يكون وجوده عندهم لإجراء أمور تأديبية تُسبِّب لهم حُزنًا مرة أخرى. ويوضح: «ولكني جزمتُ بهذا في نفسي أن لا آتي إليكم أيضًا في حُزنٍ... » (2كو 1:2-3).
ثالثًا: تعاملاته معهم اتسمت دائمًا بإنكار الذات وغياب الدوافع الذاتية والمحبة الفياضة، المحبة الحقيقية الأصيلة. (وهم يعرفون ذلك تمامًا). «لأني من حزنٍ كثيرٍ وكآبة قلبٍ كتبت إليكم بدموع ٍكثيرةٍ، لا لكي تحزنوا، بل لكي تعرفوا المحبة التي عندي ولا سيَّما من نحوكم» (2كو 4:2).
آه كم نحتاج كلنا إلى هذا النوع من الإخلاص.
دعونا نمتحن أنفسنا في روح الصلاة بالأسئلة التالية والتي أقدمها لنفسي ولكل واحد من القراء الأعزاء:
1- هل ضميري يشهد لي إني مُخْلِص، وعندما أوجد في حضرة الله أكون في سلام بلا قلق أو توتر؟
2- هل يشهد المقرَّبُون مني والذين يحتكون بي من المؤمنين بصدق دوافعي؟
3- هل يمكنني أن أقول لمَنْ أخدمهم: أنتم تعرفون عني كل شيء ولا يوجد شيء أخفيه «أنتم تعلمون ... كيف كنت معكم كل الزمان» (أع 18:20)، كالكتاب المفتوح؟ «... هكذا نتكلَّم، لا كأننا نُرضي الناس بل الله الذي يختبر قلوبنا. فإننا لم نكن قَطُّ في كلام تملُّق كما تعلمون، ولا في عِلَّة ِطمعٍ، الله
شاهدٌ» (1تس 3:2، 4).
4- هل أستطيع أن أقول مع بولس: «أقول الصدق في المسيح، لا أكذب، وضميري شاهدٌ لي بالروح القدس» (رو 1:9)؟