عدد رقم 5 لسنة 2006
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
يوسف والطريق إلى حياة النُصرة - 1   من سلسلة: تأملات عملية في تكوين 39

هذا العالم الذي نعيش فيه تحكمه ثلاثية شهيرة هي: الجنس، والمال، والسلطة.  والمُدقِّق يلاحظ أنها ذات الثلاثية التي حدثتنا عنها كلمة الله من آلاف السنين:«لأن كل ما في العالم: شهوة الجسد (الجنس)، وشهوة العيون (المال وما يقتنيه)، وتعظم المعيشة (السلطة) ليس من الآب بل من العالم.  والعالم يمضي وشهوته» (1يو2: 16).  هذا هو العالم بعد السقوط (انظر تكوين4: 17- 24).

وإن كان البعض نظير عالِم النفس الشهير ”فرويد“ قد أرجع كل تصرفات الإنسان إلى الغريزة الجنسية، فإننا نقول إنها - على الأقل- بحسب الاقتباس السابق من كلمة الله، تحكم ثلث تصرفات البشرية في استقلالها عن الله، لذا فنحن جميعًا في أمسَّ الاحتياج لأن نرفع التراب الذي علا مبادئ إلهية كتابية راقية، هي بالنسبة لنا صمام أمان.

وإن كان الوحي المقدس قد سجل لنا قصص فشل في هذه النقطة بالتحديد لنتحذر ونعتبر، فإنه سجل لنا أيضاً قصص نجاح لنتشجع وننتصر.  ولعل قصة انتصار يوسف على هذه التجربة النارية تُعد الأشهر في التاريخ، ومن الجميل والمفيد لنا في آن معًا أن نتوقف أمامها من جديد بالتحليل الهادئ والتأمل الدقيق لنستخلص لأنفسنا دروسًا نافعهّ لحياتنا العملية.

وبداية، فإنني أرجو من القارئ العزيز، وبإلحاح، أن يقرأ تكوين 39 بروح الاتضاع والصلاة، طالبًا من الرب أن يتحدث إلى قلبه، وذلك قبل الاسترسال في مطالعة أفكار هذا المقال الآن.

القداسة وأولويتها

إن إلهنا قدوس، والقداسة هي صفة ذاته، وما يميز العلاقة معه أنها في النور، في مباينة مع كل العبادات والمعبودات الأخرى في العالم.  إنه - تبارك اسمه - «ساكنًا في نور لا يُدنى منه»، «وإلى ملائكته ينسب حماقة»، «والكواكب غير نقية في عينيه»، والسرافيم التي حول عرشه لا هتاف لها سوى «قدوس، قدوس، قدوس» (1تي6: 16، أي4: 18؛ 25: 5؛ إش6: 3).

ولذا فإن التحريض يتكرر في كلا العهدين: القديم، والجديد بأن «كونوا قديسين لأني أنا قدوس» (لا11: 44، 1بط1: 16)، فالقداسة العملية ليست ترفًا روحيًا، بل ضرورة لازمة لعلاقة حية وشركة ناضرة مع الله.  إنها أسبق من أيّة عبادة، وأهم من أيّة خدمة، وألزم قبل أي نشاط ناجح.  ولعل هذا الفكر هو ما يسطع أمامنا في وضوح شمس النهار بمجرد مطالعتنا العابرة لهذا الأصحاح، يكفي فقط أن نتخيل مسار حياة يوسف، ومصيره لو وقع المحظور وسقط في هذه الخطية.  ثم لنقابل ذلك مع ما حدث معه فعلاً بعد ذلك، أي بعد نصرته ومكافآت الله له التي وإن لم تأتِ فوراً إلا أنها أتت بوفرة من إله سخي جوّاد.

رجل كبير وامرأة متزوجة

وقبل الدخول في تفصيلات هذا الأصحاح العظيم (تك39)، نلاحظ أن الروح القدس يرسم أمامنا صورة  بديعة متكاملة في هذا الأصحاح، والأصحاح السابق له (تك38). 

فبعد تكوين 37، يقطع الوحي المقدس الاسترسال الطبيعي في سرده لأحداث قصة يوسف ليرسم أمامنا صورة خطيرة في موضوع زنى يهوذا مع ثامار كنته في أصحاح 38.  قبل أن يُعاود من جديد سرد ما انقطع في استرساله لقصة يوسف بداية من أصحاح39.  ومن مقابلة الأصحاحين معاً يمكننا ملاحظة الآتي:     

  •   يبدأ تكوين 38 بكلمة «وحدث ..»، وهي ذات الكلمة التي يبدأ بها المؤرخ الإلهي قصة محاولة (أو قل محاولات) امرأة فوطيفار مع يوسف «وحدث بعد هذه الأمور...» (تك39: 7).  وكأنه يلفت نظرنا إلى أننا سنقرأ حادثة خطيرة فيما سيلي من أعداد!
  • يبدأ تكوين39 بعبارة: «وأما يوسف....» وكأنه بصدد عمل مقابلة في هذا الأصحاح بين يوسف من جهة، وبين يهوذا من الجهة الأخرى في الأصحاح السابق.
  • في تكوين38 سقط رجل متقدم في عمره.  ومن هذا نتعلم أن هذه الرغبة لا تموت بتقدم العمر، ولا تنتهي إلا بموت الإنسان نفسه كقول الكتاب «والشهوة تبطل لأن الإنسان ذاهب إلى بيته الأبدي» (جا12: 5).
  • في تكوين 38 سقط رجل متزوج.  بينما في تكوين39 هوت إلى الحضيض امرأة وزوجة لرجل مرموق.  في حين نجا وانتصر شاب صغير وهو يوسف. 

ومن هذا نتعلم أن كلاً من الرجل والمرأة مُعرَّضان للسقوط بنفس الدرجة.  وأن الزواج وحده لا يقي أبدًا من السقوط في الخطايا الجنسية، فالوحي ذكر كذلك سقوط داود "المتزوج" في نفس الخطية (2صم11: 2).  بينما انتصر يوسف وهو غير متزوج.  أي أن عدم الزواج لا يعني سهولة السقوط بالضرورة.  وإن كان المتزوج عُرضة للسقوط، وفي أي مرحلة عمرية لذا فإن التحذير يشملنا جميعًا دون استثناء.  كما أنه يكون تحذيرًا مضاعفًا بالقطع لغير المتزوجين وبالأخص الشباب.  الذين هم دائمًا، وبكل تأكيد، هدف لسهام الشرير الملتهبة.

ومن الملاحظ دائمًا أن كثيرًا من الشباب ينجو لسبب الخوف من السقوط فيها..وأن كثيرًا ما سقط الكبار لسبب اطمئنانهم المزيف أنهم لن يسقطوا، أو أنهم تجاوزوا مرحلة الخطر بالزواج، أو التقدم في السن.  وهذا وذاك ثبت من الكتاب، ومن الواقع أنه أمان وهمي. 

كما أن هذة الحادثة تدحض الزعم بالأمان طالما كان عمر المرأة (أو الفتاة) أكبر من عمر الرجل (أو الصبي)، فنحن نعرف أن يوسف وقتها كان عمره حوالي 17 سنة.  في حين أن هذه المرأة كانت متزوجة، والأرجح كثيرًا أنها كانت هي المتقدمة في العمر عنه.

وقت التجربة

يلفت النظر كذلك الوقت الذي اشتدت فيه التجربة على كلٍ من يهوذا في تكوين 38، ويوسف في تكوين39.
فبالنسبة ليهوذا كان وقت التجربة هو وقت الحزن الشديد، ففي نفس هذا الأصحاح نراه يفقد ابنيه الواحد تلو الآخر، وأخيرًا فقد زوجته (ع7، 10، 12) وهي بكل يقين - ورغمًا عن الأسباب التي ذكرها الوحي- مأساة عائلية مروعة ليهوذا.  أما بالنسبة إلى يوسف، فقد جاءته التجربة وقت النجاح الكبير (تك39: 2، 6) والتوفيق الواضح في عمله الزمني.

ومن هنا نتعلم أن نتحذر من هذه الخطية، ومتعلقاتها (كالهوى،والخيالات النجسة، والعلاقات العاطفية، و... إلخ) بصفة خاصة في هذين الموقفين: الحزن الشديد أو الفرح الشديد.  وقد ثبت علميًا أن الشهوة تنشط بشدة مع اشتداد هذين الشعورين المتناقضين.  ولنا في الوحي ما يحمينا من كلا الموقفين، فالشركة مع الرب هي صمام الأمان الوحيد الأكيد، فيقول الكتاب«أعلى أحد ببينكم مشقات؟  فليصلّ.  أمسرور أحد؟  فليرتل» (يع5: 13) وفي كلتا الحالتين: الصلاة والترتيل، نكون في وضع روحي صحيح وشركة عميقة مع الرب تبعدنا تلقائيًا عن أية أجواء غير لائقة.
حُسن الصورة والمنظر

ولا شك أن حُسن الصورة (أي القوام) والمنظر (أي الجمال) واحد من نعم الله على الشاب (أو الشابة)، إلا أنه على صاحبها (أو صاحبتها) الاحتراس المضاعف.  فالإنسان بطبعه ينظر ويستحسن بعينيه التي كانت عِلّة سقوطه في الجنة (تك3: 6) وعِلّة سقوط جبار هوى وضاع انتذاره، وانتهت حياته نهاية درامية مأساوية في ريعان شبابه لسبب عدم تحكمه في عينيه، هو «شمشون»، الذي قُلّعت عيناه في النهاية (قض 21:16).  وليس عبثًا أن ذكر الوحي هذه الملاحظة الهامة ( ع 6 ) قبل سرده للتجربة مباشرة (ع7).

رفعت عينيها  

مَنْ السيد ومَنْ العبد؟  يقول الكتاب «امرأة سيده» «رفعت عينيها إلى يوسف»!  إنها امرأة السيد، سيدة البيت كله.  أمّا يوسف ورغمًا عن كون "سيده فوطيفار" قد دفع إلى يده كل ما كان له في البيت، إلا أن يوسف لم يزد علي كونه عبدًا في هذا البيت.  ولكن يا للخطية!  ويا لعارها!  ويا لانحطاط الكرامة الذي تسبِّبه، وبالأخص الخطايا الجنسية!!  لقد انحطت هذه المرأة نتيجة انقيادها وراء أهوائها وشهواتها فصارت هي الجارية التي «ترفع عينيها» من أسفل إلى أعلى، إلى يوسف وكأنه هو السيد!  وهنا يصدق قول الرب «حاشا لي فإني أكرم الذين يكرمونني (مثل يوسف)، والذين يحتقرونني (مثل هذه المرأة) يصغرون» (1صم2: 30).

العين والأذن

لاحظ معي أن الوحي في أول سرده للتجربة يسجل أنها «رفعت عينيها إلى يوسف وقالت:...».  ما أخطر العين وما تنظر!  وما أخطر الأذن وما تسمع!  والواقع يؤكد دائماً أن المداخل المثيرة لهذه الشهوة هي عادة: العين، والأذن.  قال الرب يسوع «سراج الجسد هو العين، فمتى كانت عينك بسيطة (مُوحَّدة الاتجاه كالحمام) فجسدك كله يكون نيرًّا ومتى كانت شريرة فجسدك يكون مُظلمًا» (لو11: 34).  ونحن نعلم أن «العين لا تشبع من النظر، والأذن لا تمتلئ من السمع» (جا1: 8 ) «وكل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا» (يو4: 13).

من المعروف أن أكثر ما يثير الرجل هو ما يراه بعينيه.  في حين أن أكثر ما يثير المرأة هو ما تسمعه بأذنيها.  وهذه حقائق لا شك فيها.  لكن الوحي هنا يضيف إلينا بُعدًا آخر، هو أنه من الممكن أن تُثار المرأة بعينيها أيضًا.  وفي الأمثال يوضح أنه من الجائز أن يُثار الرجل بما يسمعه بأذنيه كذلك.  فيقول عن المرأة الزانية إن: «حنكها أنعم من الزيت» وأنها «متملقة بكلامها» وأن «شفتاها تقطران عسلاً» (أم2: 16-22؛ 3:5).

الرغبة الأنانية والحب الجسدي

«قالت: اضطجع معي».  لا نعلم علي وجه اليقين: هل هذه كانت كل كلماتها إلى يوسف أم لا، لكن الوحي أوجز فأنجز، فتكفينا جدًا هاتان الكلمتان لتفصحا أمام كل ذي عين عن دوافع هذه المرأة الشريرة.

من الواضح أنها أُعجبت بيوسف فأرادته «لنفسها»، إنها لم تبحث عن إسعاده هو، بل بحثت عن متعتها هي بالقول: «اضطجع معي»، وفي إلحاحها المتكرر عليه بعد ذلك يقول الكتاب «أن يضطجع بجانبها ليكون معها».

(يُتبع)

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com