عدد رقم 1 لسنة 2003
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
يعقوب ومبادئ حاران (تابع ما قبله)   من سلسلة: مؤمنون في أماكن خاطئه

لقد ورث يعقوب مبادئ حاران بالطبيعة.  وهذه المبادئ العالمية تثبتت وتأصلت فيه بما تعلَّمه من رفقة أمه، حيث قضى معها حقبة طويلة من حياته حتى بلغ من العمر 77 سنة.  وكان مرتبطاً بها أكثر من ارتباطه بإسحاق أبيه، متوافقاً معها وسامعاً لها في كل ما تقول.  لقد علّمته أن الغاية تبرر الوسيلة.  وطالما أن الغاية مقدسة فلا يهم الأسلوب الذي سينتهجه.  علّمته أن يعتمد على الذكاء الطبيعي والحكمة البشرية والقوة الجسدية والإمكانيات المادية.  علّمته الاستقلال عن الله بدلاً من الاستناد عليه والتعلّق به في الصلاة.  علّمته الأنانية والتمركز حول الذات وأنه الأفضل ويستحق كل شيء بغض النظر عن حقوق البكر.  علّمته الخيانة والاستهانة بكرامة الأب وهيبته وسلطانه.  وعلّمته أن الغش والكذب والخداع هي أفضل الوسائل لتحقيق النجاح في الحياة.  وأخطر من الكل علّمته أن الخطأ سيمر دون عقاب، وأنه لا توجد لعنة على مَنْ يفعل الخطية.

لقد رسمت رفقة الخطة ليعقوب ليحصل على البركة، وكانت متفقة تماماً مع رغباته.  فهو لم يرفضها، وإنما خشي أن إسحاق يكتشف الحقيقة وخشي من النتائج التي تترتب على ذلك.  كان يعمل حساباً لأبيه وكان ما يعنيه أن يحتفظ بصورة حسنة أمامه.  لكنه لم يعمل حساباً لله ولم يعبأ بصورته أمامه.  لقد خشي أن يكون في عيني أبيه كمتهاون.  وكم من مؤمنين يحاولون الاحتفاظ بصورة حسنة أمام الناس، أما الجوهر الذي يراه الله فلا يهمهم.  وتبقى الحقيقة أن الرب ينظر إلى القلب.

ذهب يعقوب وأحضر لأمه الجديين فصنعت أطعمة كما كان أبوه يحب.  وأخذت رفقة ثياب عيسو الفاخرة وألبست يعقوب.  وألبسته يديه وملاسة عنقه جلود جديي المعزى وأعطت الأطعمة والخبز في يد يعقوب ابنها (تك 14:27-17).

ورغم النوايا الحسنة لرفقة إلا أنها قد تلطخت بهذا التصرف المشين ليس فقط بما فعلته هي بل بجعل ابنها المحبوب موضوع الوعد والقصد يتصرف هذا التصرف الجسدي الغير لائق والذي يجسم العار أمام الله والناس والملائكة.

إننا في كليهما لا نرى الضمير الحسّاس الذي يعمل اعتباراً لله، ولا نرى إيماناً واتكالاً على الله المنعم والقدير الذي يستطيع أن يسيطر على إسحاق وخطئه ويضمن البركة ليعقوب. 

كان أسلوب الخداع والتمويه من جانب رفقة ويعقوب يتضمن خداع الحواس الخمسة الطبيعية لإسحاق على النحو التالي:

  • حاسة النظر كانت قد فُقدت وما عاد يبصر.
  • حاسة اللمس أمكن التغلب عليها بواسطة جلود المعزى.
  • حاسة الشم بواسطة ثياب عيسو الفاخرة.
  • حاسة التذوق إذ عملت الجديين كما كان يحب لحم الغزلان.
  •  أما حاسة السمع فهي الوحيدة التي ظلّت فعّالة.  وكانت موضع التباس لإسحاق عندما قال: «الصوت صوت يعقوب ولكن اليدين عيسو». 

وكم نرى هذه الصورة المحزنة من ازدواج الشخصية لبعض المؤمنين.  فهم داخل الاجتماعات يظهرون الطابع الروحي في الترنيم والشكر وأحياناً الوعظ، ولكنهم خارج الاجتماعات تكون تصرفاتهم تصرفات الجسد الخشن والرديء.  الله يرانا خارج الاجتماع وداخل الاجتماع.  ولن يصادق على عبادتنا الروحية إذا كنا في الحياة العملية في البيت أو العمل نتصرف بالجسد.

إنها بركة أن نحتفظ بحاسة السمع ونتدرّب على سماع صوت الرب.  «مَنْ له أذنان للسمع فليسمع».  وهو نوع من القضاء أن تُثقل الآذان فلا تسمع.

دخل يعقوب إلى أبيه وقال: «أنا عيسو بكرك.  قد فعلت كما كلمتني.  قم اجلس وكل من صيدي لكي تباركني نفسك.  فقال إسحاق لابنه: ما هذا الذي أسرعت لتجد يا ابني؟ فقال: إن الرب إلهك قد يسّر لي .. وقال: هل أنت هو ابني عيسو؟ فقال: أنا هو» (تك 19:27-24).

دخل يعقوب إلى أبيه بمنتهى الثبات والثقة بعد أن أخذ الضوء الأخضر من أمه، حاملاً الأطعمة التي يحبها إسحاق.  وفي هذا الموقف كذب يعقوب على أبيه خمس مرات، في حديث قصير ودقائق معدودة جداً.  والغريب أنه لم يرتبك أو يتعلثم، مما يدل على أنه كان محترف الكذب، وكان تلميذاً متفوقاً في مدرسة حاران.  كان ممثلاً بارعاً أتقن الدور على أنه عيسو واستخدم ذكاءه في خداع أبيه.  وقابل اندهاش إسحاق لسرعة ما أحضره بالقول: «إن الرب إلهك قد يسّر لي».  وكانت هذه أسوأ كذبة في الخمسة، إذ اتخذ اسم الرب إلهه باطلاً. 

إنه لم يراع اعتبارات الله الذي يراه.  ولو استشعر للحظة أن «الرب في هذا المكان» لارتعد ارتعاداً وما كان سيفعل ما فعله.  وهذا ما حدث مع يوسف في بيت فوطيفار عندما قال أمام التجربة: «فكيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله؟» (تك 9:39).

ويبقى السؤال: لماذا لم يتدخل الله بشكل أو آخر ليمنع يعقوب من الخطأ؟ لماذا سمح أن الخطة التي رسمتها رفقة ونفذها يعقوب تنجح، وإسحاق لم يكتشف الأمر؟ ألم يكن ممكناً إجهاض هذا المخطط الجسدي بأي طريقة؟ لماذا لم يضع الله الحواجز التي تغلق الطريق أمامه؟ الجواب: هو أن الله هو «الإله الحكيم وحده»، «مَنْ صار له مشيراً؟».  إنه يعرف متى يتدخل ويمنع الخطأ قبل وقوعه، ومتى يسمح به ويُخرج منه دروساً نافعة.  الرب يعطي للإنسان العقل، والعقل يحفظه.  إنه يحذّر الإنسان وليس من الصعب إدراك الخطأ.  كان يعقوب فاهماً أن ما يفعله خطأ.  لكن هذا الخطأ كان متوافقاً مع رغبته.  والله عندما يرى المؤمن مُصِرِّاً على الخطأ سيتركه. 

إنها رحمة عظيمة إذا تدخل الله بأعمال العناية العائقة وأغلق الطريق أمامنا وأحبط ما خططناه في جهلنا لعمل الخطية بإرادتنا الذاتية.  لكنه في أحيان أخرى قد يترك الشخص الذي نوى أن يفعل الخطية لينفذ رغبات قلبه.  وفي هذه الحالة سيحصد نتيجة عناده.  «وما يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً».  ولكن حتى عندما نحصد فإن الله أمين ولن يتخلى عنا.

كان يعقوب يقدِّر البركة والله قابل ذلك بالنعمة وضمن له البركة.  أما الأسلوب الرديء الذي انتهجه فهذا قد قابله الله بالمعاملات التأديبية.  فإن حكومة الله البارة لا بد أن تؤدب وتقوِّم البنين.  وعلى كل مؤمن أن يعرف أن الخطية لها ثمن وأن العصيان مُكلِّف.  وعليه أن يقدِّر خطورة التعامل مع إله قدوس.

لقد أشارت رفقة على إسحاق أن يرسل يعقوب بعيداً عن البيت إلى لابان في حاران.  وظنت أن ذلك لأيام قليلة ثم ترسل فتأخذه من هناك.  لكن خطة الله ومعاملاته كانت مختلفة.  لقد خرج يعقوب من البيت هارباً، وطالت مدة تغربه، وعندما رجع كانت رفقة قد ماتت ولم تشاهده مرة أخرى.  وكان هذا حصاداً مريراً لما فعلته رفقة. 

أما بالنسبة ليعقوب فكان الثمن باهظاً لمدة عشرين سنة في حاران عند لابان، تجرّع خلالها الذل والمَرَار.  لقد كان هناك في مدرسة الله يتعلم دروساً مختلفة تماماً عن مدرسة حاران.

لكن من الجانب الآخر فإن الله لا يفشل عندما يفشل الجميع كما هنا.  إنه رغم كل الأخطاء، فعل ما قصده وتكلم به ليعقوب، محققاً له البركة.

 لقد عرف إسحاق أن الذي أتى وأخذ البركة بمكر كان هو يعقوب.  ومع ذلك لم يلعنه، بل أكد له البركة قائلاً: «نعم ويكون مباركاً».  لقد ارتعد ارتعاداً عظيماً عندما اكتشف أنه كان سيرتكب خطأ فادحاً بمخالفته إعلان الله وقصده.  ولم يتراجع إطلاقاً رغم دموع وتوسلات عيسو.  وهكذا أُعطيت البركة من الرب، صاحب الوعد وصاحب السلطان، ليعقوب.  إنه لا يحتاج لمساعدتنا إطلاقاً. 

ونلاحظ أنه لا سرعة عيسو ولا رغبة إسحاق كان يمكن أن تعطّل قصد الله.  كما يقول الرسول:  «ليس لمن يشاء ولا لمن يسعى بل لله الذي يرحم» (رو 16:9).

إن رد الفعل الطبيعي عندما نقرأ هذه الأحداث هو الشعور بالسخط على أسلوب رفقة ويعقوب الدنيء في تضليل الأب الشيخ.  وقد يتعاطف البعض مع عيسو من أجل مرارة نفسه.  لكن الشيء المفرح هو أن نرى نعمة الله وسلطانه المسيطر على الأحداث والذي عمل في إسحاق فأحنى رأسه خاضعاً للقرارات الإلهية.  فبدلاً من أن ينتهر الزوجة ويعنف الابن الأصغر، أدان نفسه وارتعد ارتعاداً عظيماً عندما شعر أن الله كان يتحكم فيه وعمل ما لم يكن يريده.  فقال مؤكداً البركة ليعقوب: «نعم ويكون مباركاً».

ورغم أن الآخرين كانوا مُلامين، لكن الخطأ أساساً كان خطأه هو.  وهكذا عمل الإيمان في إسحاق بغير إعاقة الجسد.  لهذا يقول الكتاب: «بالإيمان (وليس بالعيان) إسحاق بارك يعقوب وعيسو (وليس عيسو ويعقوب) من جهة أمور عتيدة» (عب 20:11).

إن الله هو صاحب السلطان المطلق وسلطانه على الكل، وهو جدير بكل الثقة.  إنه «يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته» (أف 11:1).  «وإن كنا غير أمناء فهو يبقى أميناً لن يقدر أن ينكر نفسه» (2تي 13:2). 

    (يُتبع) 

شذرات
  حينما يسيطر الحق علينا، يحفظ الضمير صافياً، وبذلك نكون سعداء في أنفسنا، وننشر السعادة حولنا.
  إذا لم أكن أميناً في اعترافي لدى الله فأنا بدون الدرع، أما إذا كان لي درع البر فلا داعي أن أظل ناظراً إلى صدري.  فأنا أتقدم في ثقة بأنني لا أخفي شيئاً عن الله بل أسلك بكل ضمير صالح أمامه.


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com